أظهرت أحدث بيانات النشاط وسوق العمل في الولايات المتحدة، والتي نشرها بنك قطر الوطني الخميس، نتائج فوق المتوسط للاستطلاعات حول الأعمال التجارية، ونسبة قياسية لثقة المستهلك، كما أعطت تقريراً قوياً عن الوظائف غير الزراعية في مايو، والذي أظهر استحداث أكثر من 200 ألف فرصة عمل، كما أضافت التخفيضات الضريبية للعام الماضي مزيداً من الزخم إلى النمو.
وذكر التقرير أن نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2011 كان قوياً، حيث بلغ 2.2% على أساس ربع سنوي للسنة، كما تجاوز إجماع التوقعات لنمو الربع الثاني نسبة 3% على اساس سنوي، في حين أن إجماع التوقعات في العام 2018 لا يزال يتمحور حول 2.8%، ويرى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ان النمو الممكن على المدى الطويل سيبلغ حوالي 2% سنوياً.
مخاوف غير منطقية
واعتبر التقرير أنه على الرغم من وجود بعض الأسباب التي تدعو للقلق، فإن المخاوف من الركود تعد أمراً غريباً في ضوء الأداء الحالي القوي وانتعاش اقتصاد الولايات المتحدة، والذي بدأ في أبريل 2009، ويعد هذا الانتعاش ثاني أطول انتعاش منذ الحرب العالمية الثانية.
وأشار التقرير في وجهة نظر أخرى لتحليل الوضع إلى معدل البطالة الذي بلغ الآن 3.8%، قريباً من أدنى مستوياته في 20 عاماً، والذي يعد مؤشراً لبلوغ الانتعاش سن الشيخوخة، فتاريخياً، كان معدل البطالة يصل إلى أدنى مستوياته قبيل فترات الركود مباشرة.
في حين فسر أن بعض الأدلة تثبت بأنه كلما طالت فترة الانتعاش، كلما انخفض معدل البطالة وزاد احتمال حدوث ركود، يواجهها تفسير آخر بأنه بمجرد تجاوز مدة الانتعاش حوالي 10 سنوات، يتلاشى أثر “الاعتماد على المدة”. فمن المعروف أن استراليا لم تشهد ركوداً منذ عام 1992، كما نجحت اليابان أيضاً في تجنب الركود خلال الفترة من 1975 إلى 1992.
وأوضحت الدراسة أن السبب الرئيسي الذي يؤدي لموت الانتعاش في العادة ليس هو مجرد الشيخوخة، بل يحدث ذلك نتيجة لأخطاء في سياسات البنوك المركزية، وبفعل الاختلالات الأساسية في الاقتصاد الكلي المسببة لتلك الأخطاء. وأن الخطأ التقليدي في السياسات النقدية بإبقاء البنوك المركزية على سياسة نقدية متساهلة أكثر من اللازم لفترة طويلة، هو ما يؤدي إلى فرط النشاط الاقتصادي.
رفع الفائدة لخفض التضخم
وبينت الدراسة أن تسارع التضخم دفع البنك المركزي إلى مجاراة هذه الوتيرة برفع أسعار الفائدة بأكثر من المستويات الاعتيادية، ما قد يصل إلى 100 – 200 نقطة أساس، من أجل كبح الاقتصاد وخفض التضخم. وبالنظر إلى أن أسعار الفائدة أداة “غير حادة” نسبياً بسبب تأخر وتنوع تأثير السياسة النقدية على الاقتصاد الحقيقي، فإن المعايرة الدقيقة لسعر الفائدة غير ممكن، وهو ما يترتب عليه الركود دائماً .
وهذا بدوره ما يفسر لماذا يكون منحنى العائد المعكوس (عندما تكون أسعار الفائدة للمدى القصير أعلى من أسعار الفائدة للمدى الطويل) مؤشراً تقليدياً لحدوث حالة ركود، فعلى سبيل المثال، كانت آخر ثلاث حالات ركود في الولايات المتحدة مسبوقة بانعكاس منحنى العائد.
ويرى التقرير أن السياسة النقدية في الولايات المتحدة بعيدة من أن توصف بكونها متشددة، فحتى بعد جولة رفع أسعار الفائدة التي جرت هذا الأسبوع بمقدار 25 نقطة أساس والتي كانت مرتقبة بشكل كبير، فإن النطاق المستهدف لبنك الاحتياطي الفيدرالي لا يتجاوز 1.75 – 2%، أي أقل بحوالي 100 نقطة أساس من آخر تقدير لبنك الاحتياطي الفيدرالي لمسار التوازن على المدى الطويل أو ما يطلق عليه سعر الفائدة البالغ حوالي 2.75 – 3%.
واستنتجت الدراسة أنه على الرغم من استقرار منحنى عائدات سندات الخزانة الأمريكية خلال العام الماضي، فهو لا يزال في وضع جيد في المنطقة الإيجابية مع عائد السندات لأجل عشر سنوات قريب من 3%، أي أعلى بحوالي 70 نقطة أساس من العائد لأجل سنة واحدة و50 نقطة أساس من العائد لأجل سنتين.
وبحسب الدراسة فإن مؤشرات التضخم لا تزال معتدلة حتى الآن، على الرغم من الضيق المتزايد لسوق العمل، كما أن الأسواق لا تتوقع كثيراً أن يتحول بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى سياسة نقدية مشددة بالكامل، أو أن ينعكس منحنى العائد على السندات بشكل كبير.
وستستقر أسعار الفائدة الضمنية للمدى القصير فوق 3% بقليل خلال حوالي سنتين، مما يشير إلى أن دورة تشديد السياسة النقدية من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي من المتوقع أن تنتهي بعد 4 أو 5 جولات من رفع أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في كل جولة خلال العامين القادمين، حيث سيكون حينها منحنى العائد مستقراً بشكل كبير لكن لن ينعكس اتجاهه.
ولكي يتغير هذا المشهد الملائم، الذي يتحرك فيه سعر الفائدة إلى أعلى- ولكن دون أن يتجاوز مستويات محايدة متصورة- لابد من حدوث صدمة. ويعتبر سوق العمل الذي يضيق على نحو متزايد العامل الرئيسي المرشح لإحداث ذلك. وتؤدي السياسة المالية المتساهلة إلى زيادة مخاطر التضخم. ولذلك، فإن تضخم الأجور، الذي ينمو حالياً بوتيرة غير مقلقة نسبتها 2.8% على أساس سنوي، هو أبرز المؤشرات الأميركية التي يجب رصدها مستقبلاً.
ولكن حتى إذا نما تضخم الأجور بوتيرة سريعة باتجاه 4% على أساس سنوي، يمكن لعدد من العوامل الإيجابية أن تطيل أمد دورة الانتعاش. أولاً، يمكن لهوامش أرباح الشركات الأميركية المرتفعة حالياً أن تمتص الزيادة في تكاليف العمالة في المدى القصير، لا سيما في قطاعات مثل التجزئة التي تحتدم فيها الضغوط التنافسية.
تثبيت توقعات التضخم
كما أشار بنك الاحتياطي الفيدرالي وفق الدراسة المنشورة إلى أنه مستعد لتحمل أي تجاوز طفيف لنسبة التضخم المستهدفة والتي تبلغ 2% للتعويض عن الفترة الطويلة التي كانت فيها معدلات التضخم أقل من 2% خلال العقد الحالي، وهو نهج منطقي من شأنه أن يساعد في تثبيت توقعات التضخم عند نسبة 2% المستهدفة في المدى الطويل. ونظراً لأنه يبلغ حالياً 1.8% على أساس سنوي، فإن معدل التضخم، الذي يعد أداة القياس المفضلة لبنك الاحتياطي الفيدرالي، لازال لديه مجال للارتفاع.
مفاجأة إيجابية
ويمكن بحسب الدراسة أن تحدث مفاجأة إيجابية في جانب العرض من الاقتصاد، حيث أن الشركات الأمريكية تستثمر بوتيرة سريعة في استثمارات رأسمالية جديدة للمرة الأولى منذ الركود الكبير الذي حدث في 2008-2009، وأكدت الدراسة أن استمرار الازدهار الحالي في الإنفاق الرأسمالي مقروناً باستمرار التغير التكنولوجي المضطرد، يسمح للإنتاجية بالارتفاع بوتيرة سريعة بالتوازي مع نمو الأجور، وهو ما سيؤدي بدوره إلى زيادة معدل النمو المحتمل للاقتصاد على المدى القصير، وبالتالي زيادة قدرة الاقتصاد على امتصاص ارتفاع أسعار الفائدة.
وتنهي الدراسة بخلاصة أن مخاوف حدوث ركود تبدو سابقة لأوانها على الرغم من طول دورة الانتعاش في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يبدو أن الفترة المضيئة التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي حالياً، والتي تتسم بالنمو القوي واعتدال التضخم وسلاسة زيادة أسعار الفائدة ستستمر حتى عام 2020 على الأقل.