بنوك عربية
منذ حصولها على الاستقلال في عام 1956، اعتمدت الدولة التونسية نهج التخطيط التنموي بوصفه إحدى أهمّ الآليات لتحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين الأوضاع الاجتماعية، وبناء المؤسسات الوطنية.
وتحققت نجاحات على مدى العقود الماضية في إرساء تقاليد وآليات إجرائية ومنهجيات ومؤسسات مركزية وقطاعية وجهوية لإعداد المخططات وتنفيذها وتقييمها.
ولئن ساهم التخطيط المركزي في تأسيس بنية تحتية صناعية وتعليمية وصحية تُحسب لتونس، مقارنة بالعديد من الدول النامية، فإنّ الوعود الكبرى التي رافقت هذا النهج واجهت وما زالت تواجه تحدّيات جمّة حالت دون تحقيق “المعجزة الاقتصادية”، أو بلوغ مستوى الدول الصاعدة.
بعد الثورة التونسية في عام 2011، التي قامت على مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، برزت فرصة تاريخية لإعادة النظر في منوال التنمية، ورسم طريق جديد ينأى عن كلّ عوامل الفشل السابقة.
بيد أنّ عدّة عوامل، داخلية وخارجية، تضافرت لتحول دون حدوث القطيعة الضرورية مع النهج الماضي. فما بين “مخطط الياسمين” مباشرة بعد الثورة، و”المخطط الخماسي 2016-2020″ الذي انتهى أجله دون أن تتحقّق أهدافه الاستشرافية، أضحى الرهان على سؤال مركزي: هل تحتاج تونس حقًّا إلى مخطّط تنموي جديد بالطريقة ذاتها، أم إلى مراجعة شاملة لمنوالها ومقاربتها في التخطيط؟
لكن، قبل التوصل إلى مقاربة فعالة جديدة تجيب عن ذلك السؤال، تعرض النهج القائم، محل التساؤل، إلى انتكاسة كبيرة إثر الأزمات السياسية والاقتصادية المتعاقبة التي بلغت ذروتها في 25 يوليو/ تموز 2021، حين تمّ الانقلاب على الديمقراطية ودخلت البلاد في حالة عدم الإستقرار .
منذ ذلك الحين، تحوّل “التخطيط التنموي”، إلى مجرد مقاربات ارتجالية، مثل؛ الدفع نحو مركزة أكبر للدور الاقتصادي للدولة، ونحو نماذج اقتصادية غير مدروسة كالشركات الأهلية، التي افتقرت إلى آليات واضحة للتمويل والإدارة. وهو ما زاد في تعميق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بنسق متسارع وخطير يهدد استقرار الدولة وأمن المجتمع.
في ظل هذا النظام، الذي يفتقر إلى التشاركية والانفتاح على كل مكونات المجتمع، أصبح التساؤل مشروعًا: هل يمكن أن ينجح التخطيط التنموي في ظل نظام أوتوقراطي، فاقد للنجاعة، والمعرفة التقنية، والإرادة لتحقيق تنمية مستدامة؟
يستعرض هذا المقال، مسار التخطيط في تونس منذ الاستقلال إلى ما بعد الثورة، ويسلّط الضوء على أهمّ المحطّات والتحوّلات، قبل أن يعرض قراءة نقدية للمقاربة المتّبعة طيلة العقود الماضية، وصولًا إلى رسم معالم رؤية استشرافية بديلة منسجمة مع التطورات الحاصلة في العالم، بغرض إخراج البلاد من دائرة إعادة إنتاج الفشل التنموي.
أوّلًا: جذور التخطيط التنموي في تونس
مرحلة ما بعد الاستقلال (1956- أواخر الخمسينيّات)
غداة الاستقلال، وجدت الدولة التونسية نفسها أمام تحدّيات كبرى تتعلّق ببناء المؤسسات السيادية، وتحقيق حدّ أدنى من الكفاية الاقتصادية والاجتماعية. وشأنها شأن دول كثيرة نالت استقلالها حديثًا، تأثّرت تونس بالنزعة الاشتراكية والتخطيط المركزي الذي كان رائجًا في بلدان المعسكر الاشتراكي، وفي عدد من الدول الرأسمالية نفسها (مثل فرنسا) التي اعتمدت هي الأخرى نوعًا من التخطيط التوجيهي بعد الحرب العالمية الثانية.
سعت الدولة الناشئة إلى اعتماد مخطّطات تنموية ثلاثية أو خماسية للتركيز على القطاعات الإستراتيجية: الصناعة الثقيلة والفلاحة والتعليم والصحة.
ومنذ المخطّط الأوّل، ظهرت نزعة قوية لدى السلطة المركزية في قيادة المبادرات التنموية، سواء من حيث تعبئة الموارد المالية، أو تحديد المشاريع الاستثمارية، أو تهيئة المناطق الصناعية.
من التأميم إلى الليبرالية فالإصلاح الهيكلي والانفتاح المحدود
مرّ الاقتصاد التونسي بجملة من التحوّلات الكبرى:
- مرحلة التأميم (1961–1965): تحت وطأة الأفكار الاشتراكية والتعاضديات، حاولت الدولة توجيه النشاط الاقتصادي بقبضة مركزية، لكن التجربة لم تُعمّر طويلًا بفعل ضعف الإمكانات وتنامي المقاومات المجتمعية.
- مرحلة الانفتاح الليبرالي (السبعينيّات من القرن الماضي): انطلقت الدولة في تشجيع الاستثمار الخاصّ والسياحة في الشريط الساحلي للبلاد، مفسحةً المجال أمام شراكات أجنبية ودخول رؤوس أموال خارجية في مشاريع ذات قيمة مضافة ضعيفة وطاقة تشغيلية عالية تستند إلى أجور ضعيفة، وإن ظلّ التخطيط حاضرًا في صيغة موجِّهة.
- مرحلة الإصلاح الهيكلي (الثمانينيّات): تحت ضغط المؤسسات المالية الدولية، واجهت تونس أزمة مديونية خانقة، فاضطُرّت لاعتماد برنامج الإصلاح الهيكلي الذي قيّد حرية القرار التنموي بالاشتراطات الخارجية. وزاد الارتباط بالخارج دون سياسات تحرير اقتصادي كاملة في التسعينيات وبعدها، خاصة بعد توقيع اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 1995.
في هذه المسارات جميعًا، ظلّ إعداد المخطّطات والبرامج التنموية السنوية مرتبطًا ببنية بيروقراطية راسخة: (مندوبية عامة للتنمية الجهوية، دواوين تنمية، مندوبيات جهوية، لجان قطاعية…). وقد اكتسبت الدولة على امتداد عقود تقاليد وآليات إجرائية واضحة تُوَثَّق في تقارير تقييمية دورية. إلّا أنّ سؤال الفاعلية ظلّ مطروحًا مع كلّ مخطّط خماسي أو ثلاثي جديد.
الجدول 1. تونس – المؤشرات الرئيسية للاقتصاد الكلي، 2010 – 2019
2010 | 2011 | 2012 | 2013 | 2014 | 2015 | 2016 | 2017 | 2018 | 2019 | |
النمو الحقيقي في الـ GDP | 3 | -1.9 | 3.7 | 2.4 | 2.3 | 1.1 | 1 | 1.9 | 2.6 | 2.7 |
البطالة | 15.3 | 15.3 | 15.4 | 15.5 | 15.3 | 15 | 14.8 | |||
الكساد | 4.4 | 3.9 | 5.9 | 5.7 | 4.8 | 4.1 | 4.2 | 6.4 | 6.5 | 7.1 |
إجمالي الاستثمار | 26.4 | 24.1 | 24.3 | 22 | 21 | 21.4 | 22 | 22.5 | 23.1 | 23.5 |
الاستثمار بالقطاع العام | 6.8 | 7.3 | 6.6 | 4.9 | 4.8 | 4.7 | 5.3 | 5.5 | 5 | 5.8 |
الاستثمار بالقطاع الخاص | 19.5 | 16.8 | 17.3 | 17.8 | 18.8 | 16.8 | 16.9 | 17.0 | 18.1 | 17.7 |
الائتمان المقدم للقطاع الخاص | 70.6 | 67.4 | 67.4 | 73.7 | 73.8 | 73.5 | 73.7 | 73.8 | ||
إجمالي الأرباح | 23.3 | 24.5 | 23.1 | 25 | 25.4 | 23.2 | 22.7 | 24 | 24.6 | 25.7 |
إجمالي النفقات | 24.4 | 28 | 28.8 | 32.4 | 29.8 | 28.8 | 28.7 | 30.2 | 30.1 | 29.3 |
الإنفاق الاجتماعي منها | 3.7 | 6.1 | 7 | 7.8 | 7 | 5.7 | 4.6 | 6.1 | 6.4 | 5.1 |
حصة الأجور منها | 10.7 | 11.8 | 12.2 | 12.5 | 12.7 | 13.6 | 14.5 | 14.7 | 14.8 | 14 |
العجز المالي | -1.1 | -2.8 | -5.7 | -7.3 | -3.7 | -5.3 | -5.9 | -6 | -5.2 | -3.4 |
الدين العام | 40.4 | 44 | 44.5 | 46.8 | 51.6 | 54.8 | 61.2 | 71.3 | 73.1 | 73.3 |
العجز في ميزان المدفوعات | -4.8 | -7.5 | -8.2 | -8.4 | -9.1 | -8.9 | -8.8 | -10.1 | -9.2 | -7.8 |
الاستثمار الأجنبي المباشر | 3 | 0.4 | 1.5 | 2.3 | 2.2 | 2.2 | 1.7 | 1.8 | 2 | 2.5 |
الدين الخارجي | 44.5 | 46 | 57 | 61.4 | 64.9 | 72.2 | 80.1 | 83.7 | 85.5 | |
RER (depreciation) | -1.9 | -0.2 | 5.1 | -4.7 | -10.7 |
المصدر: صندوق النقد الدولي مادة 4، عدة سنوات. ملحوظة: الإنفاق الاجتماعي يشمل الدعم المقدم للغذاء والمواصلات والطاقة وتحويلات التأمين الاجتماعي والمدفوعات المقدمة لصندوق التأمين الاجتماعي.
الجدول 2. مقارنة بين الدول (أحدث بيانات متوفرة)
تونس | المغرب | الأردن | تركيا | مصر | |
مؤشرات الحوكمة العامة (الحكومية) | |||||
قدرة الانتقاد والمحاسبة (الدرجة الأعلى أفضل) | 56 | 29 | 25 | 29 | 15 |
فعالية الحكومة (الدرجة الأعلى أفضل) | 36 | 39 | 47 | 43 | 20 |
جودة تنظيم الأعمال التجارية (الدرجة الأعلى أفضل) | 24 | 32 | 45 | 51 | 25 |
سيادة القانون (الدرجة الأعلى أفضل) | 46 | 37 | 57 | 34 | 31 |
الاستقرار السياسي (الدرجة الأعلى أفضل) | 13 | 35 | 26 | 5 | 8 |
السياسات المالية | |||||
حجم الحكومة المركزية (% GDP) | 30 | 25 | 29 | 24 | 28 |
معدل ضرائب الشركات (نسبة من الأرباح) | 60 | 49 | 27 | 41 | 22 |
الأجور للقطاع العام (% GDP) | 15 | 12 | 5 | 8 | 5 |
الدعم والتحويلات (% exp) | 20 | 5 | 27 | n.a | 7 |
مؤشرات الاقتصاد الكلي | |||||
الـ GDP الحقيقي/معدل النمو | 2.5 | 3.1 | 2.0 | 1.5 | 5.3 |
الدين العام (النصيب من الـ GDP) | 77 | 65 | 94 | 30 | 93 |
الدين الخارجي (النصيب من الـ GDP) | 83 | 33 | 68 | 34 | 37 |
الاستثمار الأجنبي المباشر (النصيب من الـ GDP) | 2 | 3 | 5 | 1.5 | 3.1 |
الاستثمار الكلي (النصيب من الـ GDP) | 23 | 33 | 18 | 29 | 13 |
القيام بالأعمال التجارية | |||||
التصنيف التنافسي (مؤشر، الدرجة الأقل أفضل) | 87 | 71 | 65 | 53 | 94 |
الائتمان للقاع الخاص (% من GDP) | 81 | 65 | 75 | 70 | 38 |
السيطرة على الفساد (مؤشر، الدرجة الأعلى أفضل) | 53 | 52 | 64 | 50 | 32 |
المؤشرات الاجتماعية | |||||
مؤشر جيني (مؤشر، الدرجة الأقل تعني مساواة أكثر) | 40 | 41 | 33 | 41 | 39 |
القطاع غير الرسمي (% من GDP) | 40 | 38 | 20 | 33 | 50 |
معدل الفقر (% من السكان) | 20 | 9 | 14 | 2 | 33 |
المصادر: مُجمّع، باستخدام أحدث المعلومات المتوفرة، من: البنك الدولي، المؤشرات الحكومية، مؤشرات البنك الدولي، تقرير التنافسية العالمي، صندوق النقد الدولي قاعدة بيانات WEO.
ثانيًا: إنجازات محدودة وكلفة اجتماعية مرتفعة
رغم ما حقّقه التخطيط من نتائج إيجابية على مستوى توسعة شبكة البنية التحتية: (طرقات، كهرباء، مياه…) والرفع من معدّلات التمدرس وتحسين المؤشّرات الاجتماعية نسبيًّا، فإنّ العوامل التالية أضعفت أثر المخطّطات التنموية في تحقيق الإقلاع الاقتصادي:
التفاوت الجهوي: إذ تمحورت أغلب الاستثمارات العمومية الكبرى في الشريط الساحلي، وبدرجة أقلّ في مناطق قريبة من المراكز الحضرية الرئيسية، ما أدّى إلى تعميق الهوّة بين الساحل والداخل.
وعلى الرّغم من إدراج مشاريع تنموية في بعض المخطّطات المتعاقبة للجهات الداخلية، فإنّ نسبة الإنجاز ظلّت ضعيفة، وبقيت البطالة والفقر والتهميش الجهوي من أبرز التحدّيات.
استفحال الاقتصاد الرَّيعي: حيث أسهمت طبيعة التخطيط المركزي، إلى جانب سيطرة الحزب الحاكم قبل الثورة، في خلق نسيج اقتصاديّ تحكمه رخص وامتيازات تحتكرها عائلات نافذة ولوبيات موالية للمنظومة السائدة.
وقد تكرّس هذا الوضع مع البرامج التنموية القُطرية التي غالبًا ما كانت خاضعة لاعتبارات سياسية ومصلحية.
تغيّر السياسات وتناقضها: مع تغيّر الحكومات أو انتقال البلاد من توجّه اشتراكي إلى آخر ليبرالي، كانت إستراتيجيات التنمية تتعرّض للتبديل أو الإلغاء أو المراجعة الجذرية، ما أفقدها عنصر الاستمرارية.
إضافةً إلى ذلك، ساهم توسّع المديونية وعجز الميزانية في تهميش أهداف المخطّطات نفسها، إذ إنّ الحكومات المتعاقبة خضعت لشروط المانحين، ما انعكس سلبًا على مبدأ السيادة الوطنية في اتخاذ القرارات الإستراتيجية.
غياب التقييم الشامل والشفّاف: إذ اعتادت الإدارات الجهوية والمركزية تقديم تقارير مرحلية وجزئية، تبيّن مدى تقدّم تنفيذ المشاريع المرصودة في كلّ ولاية أو قطاع، لكنّ هذه الآلية البيروقراطية لم تُتَرجَم إلى تقييم وطني شامل قادر على ربط تلك النسب ومؤشرات الإنجاز بالأهداف الكبرى: كالتشغيل والعدل الاجتماعي والابتكار والتصدير وضمان الأمن الغذائي، أو تحقيق التوازنات الكبرى. وبالتالي، ظلّ التخطيط يدور في حلقة مفرغة: إعداد مخطّط جديد دون تقييم حقيقي لسابقه.
هذه العوامل مجتمعة خلقت مناخًا متوتّرًا على مدى عقود، تجلّى في تنامي الاحتقان الاجتماعي، وبرزت أوضح صوره في انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، ثمّ في انفجار الثورة عام 2011، التي كان فشل التنمية أحد أهمّ العوامل البنيوية المؤدّية إليها.
ثالثًا: الثورة التونسية وفرصة التغيير المهدورة
مع اندلاع الثورة وسقوط نظام “بن علي” السابق، كانت تونس أمام فرصة ذهبية لإعادة هندسة منظومتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي قلبها المنوال التنموي. إذ تعلّقت الآمال بأن يجري استثمار الزخْم الشعبي الكبير ورحيل منظومة الحزب الواحد، لطرح مقاربة تنموية تشاركية جديدة تتجاوب مع روح الثورة وتطلّعات الشارع التونسي. لكنّ الواقع جاء مختلفًا:
انشغال بالمسار السياسي وغياب الرؤية التنموية: حيث تحوّل الاهتمام سريعًا إلى الصراع الأيديولوجي حول النموذج المجتمعي، وإلى الجدال السياسي والدستوري حول إدارة المرحلة الانتقالية وطبيعة النظام السياسي وتقاسم الصلاحيات التنفيذية. وأُهمِل النقاش حول صياغة برنامج اقتصادي- اجتماعي ثوري قادر على التصالح مع الجهات المحرومة ودعم المبادرات الشبابية. وتُرك الملف الاقتصادي التنموي جانيا.
ظهور “مخطّط الياسمين”: وهو مخطط تنموي خماسي أعدّته الحكومة المؤقتة برئاسة الباجي قائد السبسي (2011) بتنسيق من وزير المالية آنذاك جلول عياد، وبدعم من اتحاد الأعراف. وقد رُوِّج للمخطط بأنّه سيجعل من تونس “سنغافورة المتوسّط”. غير أنّ إعداده افتقر إلى تشاركية فعليّة، حيث تمّ الاتكال على مكاتب دراسات دولية ومقترحات مجموعة الثماني في مؤتمر “دوفيل” بفرنسا في مايو/ أيار 2011.
وجاءت النتيجة في شكل مجلّد أنيق من الوعود المالية والأرقام المرتفعة لخلق مليون موطن شغل وتعبئة 125 مليار دينار…، بالارتكاز على فرضية نسب نمو لا تقل عن 5٪ سنويًا، دون أدنى إنجاز فعلي في أرض الواقع.
غياب التصوّر الاقتصادي لدى الحكومات الانتقالية: حيث إن حكومتَي الترويكا (2012-2013) اعتمدتا بدرجة كبيرة على ما ورد في “مخطّط الياسمين”. إذ لم تُبلورا رؤية تنموية جديدة تتناسب مع خيارات ثورية طالبت بتكريس العدالة الاجتماعية والقطع مع الفساد والاقتصاد الرَّيعي. وغادرتا الحكم دون منجز اقتصادي يُذكر.
ثم جاءت حكومة المهدي جمعة (2014) لتعمّق الانخراط في منطق الاستدانة مقابل تقديم تعهّدات للمؤسّسات المالية الدولية بإجراء إصلاحات هيكليّة تقشّفية. وفي الأثناء، باتت دوائر القرار التنموي ذات صبغة خارجية أكبر مع لجنة قيادة دولية فيها شخصيات رسمية أجنبية، لإعداد دراسات إستراتيجية لم تُنشر للعموم ولم تُعرض على البرلمان، ما أثار تساؤلات حول شفافية الخيارات التنموية في فترة ما بعد الثورة.
رابعًا: مخطّط 2016-2020: الكثير من النوايا ونتائج باهتة
في ظلّ حكم الباجي قائد السبسي رئيسًا للجمهورية، والحبيب الصيد رئيسًا للحكومة، بدأ إعداد المخطط الخماسي للتنمية 2016-2020 في يوليو/تموز 2015. كان الهدف المعلن هو القطع مع الآليات القديمة وإشراك المواطنين والمجتمع المدني في تحديد الأولويات الجهوية، مع اعتماد “وثيقة توجيهية” تُعَدّ بمثابة الرؤية الإستراتيجية. غير أنّ العملية شهدت عدّة هنات، من أبرزها:
دور مكاتب الدراسات الأجنبية: حيث لجأ وزير التنمية ياسين إبراهيم أوّلًا إلى بنك الأعمال الفرنسي “لازار” للمساعدة في إعداد المخطط وتسويقه. ثم استُبدل بـ”أرجيل” و”كومات” و”جون أفريك” وبمشاركة “دومينيك ستروس كان” المدير السابق لصندوق النقد الدولي.
ورغم إلغاء التكليف الأوّل تحت ضغط التساؤلات حول الشفافية والسيادة والمصلحة الوطنيتين، فإنّ الاتكال الكامل على خبرات خارجية بقيت مسألة ضبابية.
تواصل المنهجية التقليدية بنكهة “تشاركية” محدودة: إذ إنه مع تضييق الآجال وشيوع البيروقراطية، بقيت القنوات الرسمية؛ (المجالس الجهوية، دواوين التنمية…)، هي المسيطرة على العملية. واكتُفي بجرعات من الاستشارات المحدودة مع المنظمات الاجتماعية وبعض ممثّلي المجتمع المدني في الجهات. فكانت النتيجة مخطّطًا ضخمًا من الأهداف والنوايا دون قلب حقيقي لموازين السياسات ولا وضع خطط تمويلية واقعية.
التعويل على “الإصلاحات الكبرى” بإملاءات خارجية: إذ ركّز المخطّط المذكور، وكذلك تصريحات المسؤولين الحكوميين حينها، على “إصلاح الدولة والإدارة”، وتنفيذ حزمة من الإصلاحات الهيكلية؛ وهي في معظمها مطالب قديمة لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، لا تنسجم بالضرورة كلها مع مسار تطوير اقتصاد تضامني أو الحدّ من التفاوت الطبقي والجهوي.
تقييم محدود الأثر: حيث جاء موعد انتهاء المخطّط الخماسي الأول بعد الثورة بنهاية العام 2020 دون أن تتحقّق النسب المتوقّعة من النمو أو توفير مواطن الشغل أو تقليص الفقر والتفاوت الجهوي.
وعاد الحديث عن ضرورة تقييم النتائج. بيد أنّ العادة الإدارية في تونس رسّخت نمطًا من “التقييم” الإحصائي – الأقرب إلى التقدّم المادّي للمشاريع من حيث الإنجاز المالي والفني- بدل تقييم المنوال ككلّ في ضوء أهداف التنمية المستدامة أو أهداف الثورة.
فاقد الشيء لايعطيه! كان من الخطأ انتظار تغيير جوهري في منهجية التخطيط من حكومة صرّح وزيرها للإصلاحات (توفيق الراجحي) أن وضع البلاد لا يتطلب منوالًا تنمويًا جديدًا وإنما فقط “إصلاحات” في المنوال السابق، مؤكدًا أنه “لو لديك سيارة ولاحظت أنها ليست ناجعة بما فيه الكفاية فأنت لا تغير كل شيء في مرة واحدة بل تتطرق الى أصل المشكل ثم لا تغير إلا الذي يجب تغييره وتحافظ على الباقي”!!
كان الكثير من التونسيين يتوقعون أن الهدف الرئيسي للثورة تعويض العربة المعطلة التي عجزت عن إيصالنا إلى بر الأمان بعربة جديدة منسجمة أكثر مع واقعنا، بمحرك قوي ونظيف وفعال ومقتصد (الدولة) ودفع ذاتي وعدل في الرفاهية بين كل الركاب، وقدر كبير من الأمان والسلامة ووضوح في الرؤية ومرونة في الحركة مع ثبات في الاتجاه وقدرة على الوصول إلى الوجهة المحددة. فأصبح المطلب بعد خمس سنوات من الثورة مجرد إصلاحات ترقيعية في هيكل متهالك يندفع بسرعة متزايدة نحو حائط أملس.
خامسًا: البهتة التنموية وخروج القطار عن السكة المهترئة
في بداية 2021، نشرت مقالًا في جريدة الصباح التونسية تساءلت فيه إن كانت البلاد ما زالت بحاجة إلى مخطّط خماسي جديد. وبينت فيه آنذاك، عدم جدوى الدخول في مغامرة إعداد مخطّط خماسي جديد (2021-2025) بالأسلوب البيروقراطي المعتاد، في ظل الأوضاع المعقدة التي كانت تعيشها البلاد. حيث كانت الأزمة السياسية على أشدها بسبب تشظّي المشهد الحزبي وتصاعد الصراعات الأيديولوجية وتنازع الصلاحيات بين مختلف الرئاسات والمؤسّسات.
وكان الوضع الاقتصادي في أسوأ حالاته في أعقاب مرور جائحة كوفيد-19، وما خلفته من تفاقم لعجز الموازنة، وتدهور قيمة الدينار، وازدياد نسب البطالة، وإفلاس مئات المؤسسات الصغرى والمتوسّطة المتأثّرة بالجائحة، مع تصاعد التوتّر والإضرابات في أكثر من قطاع وجهة.
كل هذا في ظل تراجع ثقة المانحين والمستثمرين، بسبب تعطّل الإصلاحات الهيكلية وعدم استقرار المناخ السياسي. وقلت آنذاك إن الأولوية ليست إعداد مخطّط خماسي يوزَّع على مشاريع قد يعجز تمويلها وقد لا تحظى بالتوافق اللازم؛ بل تقتضي الواقعية إعداد “برنامج إنعاش اقتصادي وتضامن اجتماعي” يمتدّ لأربعة أعوام ، لإنقاذ النسيج الاقتصادي والاجتماعي، على أن يتمّ، في الأثناء، فتح حوار وطني حقيقي حول منوال التنمية المقبل، على مستوى النخب والفاعلين السياسيين والمجتمع المدني والمواطنين عمومًا، حتّى تُعرض المخرجات كبرامج واضحة أثناء المحطّات الانتخابية المقبلة.
ما حصل إثر ذلك كان تعطل مسار إعداد المخطط الخماسي (2021-2025) لقرابة السنتين، ثم الانطلاق في إعداد مخطط ثلاثي للفترة الممتدة من 2023 إلى 2025، بشكل بيروقراطي في إطار شكلاني محدود، بعيدٍ عن أي روح تشاركية جدية أو حوار مجتمعي، في ظل أوضاع سياسية جديدة تمثلت في الانقلاب على الدستور وحلّ البرلمان، وتجميع كل السلطات في يد رئيس الجمهورية وقمع الحريات واستهداف الأحزاب والمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني.
وهو ما أفرز مخططًا أحاديًا باهتًا فضفاضًا، تعطلت المصادقة عليه من طرف مجلس الوزراء لمدة عامين كاملين، حيث صودق عليه من حكومة أحمد الحشاني يوم 9 مارس/ آذار 2024.
وانسجامًا مع طبيعة المرحلة المرتكزة على الشعارات الشعبوية، تم ربط المخطط الثلاثي 2023-2025 أثناء إعداده بمشروع “رؤية تونس 2035″، التي تم تقديمها من طرف رئيس الحكومة ذاته باعتبارها تمثل “نموذجًا تنمويًا جديدًا يرتكز على التجديد والإدماج والاستدامة”. وتم إعدادها من طرف الإدارة بدعم تقني من طرف الوكالة الألمانية للتنمية GIZ. “منوال تنموي جديد” لم يشارك في إعداده أو مناقشته أحد لا في المنتظم السياسي ولا المجتمع المدني ولا حتى في البرلمان.
وفي شهر يوليو/ تموز 2024، أعلنت فريال الورغي وزيرة الاقتصاد والتخطيط عن الانطلاق في إعداد المخطط الخماسي 2026-2030، مستندة إلى رؤية تونس 2035، ومعتمدةً على مقاربة تأخذ بعين الاعتبار التقسيم الترابي الجديد للبلاد إلى خمسة أقاليم، حيث سيتم وضع مخطط تنموي خاص بكل إقليم.
خلال السنوات الأخيرة، أصبح التخطيط التنموي نوعًا من الشكلانية الإجرائية المفرغة من أي مضمون جدي والفاقدة لأي تشاركية حقيقية في الإعداد ولأي ارتباط بالواقع. وأصبحت الفرضيات والأهداف المرقمة وهمية خيالية توضع على الورق دون أن تتبعها جهود حقيقية في الإنجاز وتحويلها إلى واقع.
سادسًا: ما هي المقاربة البديلة للتخطيط التنموي في تونس؟
في ظل الواقع السياسي الراهن، حيث تخضع تونس لحكم استبدادي غير شرعي، تظل الأولوية الوطنية الملحّة هي استعادة الشرعية الديمقراطية، وإعادة بناء نظام سياسي يستند إلى ديمقراطية ناجزة ومستدامة، تتجاوز هشاشة التجارب السابقة.
ومع السعي لتحقيق هذا الهدف المحوري، ينبغي علينا التفكير في ابتكار مقاربة جديدة للتخطيط التنموي تكون قادرة على توجيه البلاد نحو منوال تنموي جديد يضع الإنسان ورفاهيته كقيمة أساسية. هذا التوجه يتطلب استلهام التجارب الناجحة عالميًا، والاستفادة من إطار أهداف التنمية المستدامة 2030، مع مراعاة خصوصيات الواقع التونسي.
لن يكون من المجدي ومن المقبول مستقبلًا أن يُفرض أي مخطط تنموي قادم من طرف الإدارة البيروقراطية المركزية أو اللوبيات الريعية، ثم يأتي السياسيون إثر ذلك لتبني شعاراته ثم التملص من نتائجه.
حالما تعود البلاد إلى مناخات شرعية ديمقراطية، يجب العمل على أن يكون الشأن التنموي في قلب اهتمام النخب السياسية، وأن تكون البرامج الاقتصادية والاجتماعية في صلب التنافس الانتخابي عوضًا عن الانشغال بالحروب الأيديولوجية والسياسية التي أثرت سلبًا على مسار التنمية في البلاد.
في هذا السياق، يجب أن يكون المنوال التنموي مستقبلًا محور حوار وطني إدماجي تشاركي، من أجل بناء رؤية وطنية جامعة تتضمن ثوابت يتفق عليها الجميع، مثل السيادة الاقتصادية والأمن الغذائي والمائي والطاقي والبيئي، وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، والانتقال الرقمي، مع ترك التفاصيل للتنافس البرامجـي بين الأحزاب، وآليات التنفيذ للحكومات.
لا بد من تجاوز المنهجية التقليدية للتخطيط التنموي، المعتمدة على الاستشارات القطاعية والجهوية بالأسلوب البيروقراطي المعتاد، والمرتكزة على تجميع مقترحات المشاريع من الوزارات المختلفة ووضعها في ملف واحد دون رؤية جامعة وخيط ناظم.
ولا مناص من أن تنطلق عملية التخطيط مستقبلًا من تقييم شامل وشفاف، لا يقتصر على نسب إنجاز المشاريع المبرمجة، بل يشمل مؤشرات التنمية البشرية والتنافسية والحوكمة والفساد، ومدى التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) السبعة عشر، ومدى التقدم في تحقيق الإصلاحات الكبرى، مع التركيز على أثر المشاريع الكبرى على الفئات الهشّة والجهات المهمّشة.
التخطيط التنموي في تونس يجب أن يضع الإنسان في صميم اهتماماته، من خلال التركيز على تحسين جودة التعليم والرعاية الصحية، وتعزيز العدالة الاجتماعية عبر تقليص الفجوات الجهوية والاجتماعية وخلق فرص عمل كريمة وشاملة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون السياسات التنموية مرنة وتستجيب لتغيرات السياق المحلي والدولي، مع التركيز على دعم التحول الرقمي كوسيلة لتحسين كفاءة الخدمات وتعزيز التنافسية الاقتصادية. كما يتعين دعم الشباب والمبادرات الريادية من خلال توفير التمويل والبنية التحتية المناسبة لتحفيز الابتكار وريادة الأعمال.
تمويل التنمية في ظل شح الموارد وارتفاع المديونية يتطلب حلولًا مبتكرة تشمل تحفيز الشراكة بين القطاعين؛ العام والخاص، وتطوير أدوات تمويل تشاركية مثل الصكوك الإسلامية والصناديق الوقفية وسندات المشاريع، وإشراك الجاليات التونسية بالخارج ضمن منظومة استثمار شفافة. كما يمكن تعزيز اللامركزية الجبائية لتمكين الجهات المحلية من تعبئة موارد إضافية لدعم خططها التنموية.
ولا يمكن تحقيق هذه الرؤية دون استعادة ثقة المواطنين والشركاء الدوليين، من خلال محاربة الفساد وتحسين مناخات الأعمال، وتمكين الجهات والفئات المحرومة. ولا شك أن بناء الثقة يحتاج إلى إرادة سياسية جادة ومشروع إصلاحي شامل يعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة ويعزز الشفافية والمساءلة.
تحديات اقتصادية عديدة على الطريق
ليس الاقتصاد التونسي في وضع جيد؛ فقد أصيب إصابة بليغة بعد ثورة 2011 تحت تأثير عدة صدمات سلبية، منها انهيار السياحة (لا سيما بعد تزايد معدلات انعدام الأمان في 2012-2013 والهجمات الإرهابية في 2015-2016)، وفقدان السوق الليبية، وتراجع إنتاج الفوسفات والنفط بسبب الخلافات التي أديرت بشكل سيء في الشركات المملوكة للدولة. يُقدر مصطفى كمال نبلي هذه الخسائر بنحو 6% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً في المتوسط، مقارنة بمعدلات عام 2010، و14% من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بتوجه إجمالي الناتج المحلي القائم عام 2010.1
هذه ضربات قوية للغاية. وهناك دول كثيرة تتعرض لصدمات أثناء المرور بمراحل انتقال سياسي، لكنها سرعان ما تتعافى. في دراسة للدول التي مرت بمراحل انتقال سياسي – لا سيما في شرق أوروبا – توصل فرويند وجود إلى أن النمو تراجع لأربع أعوام في المتوسط بعد التغيير السياسي، قبل أن يتعافى الاقتصاد. وفي الفترات الأولى من المرحلة الانتقالية، ينصب الاهتمام من حيث السياسات في العادة على الجانب السياسي، وهو الجانب الذي يكون في الغالب بمثابة القضية التي تقود السياسات. لكن توصل فرويند وجود إلى أن الدول التي تدهور الاقتصاد فيها كثيراً ولمدة طويلة، مثل الجمهوريات السوفيتية السابقة، أصبح التقدم السياسي فيها صعب التحقق، مع المخاطرة بسقوط هذه الدول في فخ مرحلة انتقالية مطولة لا فكاك منها.
اليوم تواجه تونس نفس الخطر. على الورق، لدى تونس كافة المكونات اللازمة لتطوير اقتصاد قادر على النمو بشكل صحي، كما فعلت النمور الأسيوية من قبل، فلدى تونس طبقة متوسطة متعلمة وهي قريبة من أسواق الاتحاد الأوروبي الكبيرة. لكن ضعف الأداء الاقتصادي استشرى في ظل نظام بن علي، مع عدم قدرة الدولة على تحقيق إمكاناتها التي أطلقتها ثورة 2011. هذا الموقف لم يتحسن بعد الثورة، إنما ظهرت أمراض جديدة. وعلى وجه التحديد، فهناك أربعة جوانب تستحق أن يسلط عليها الضوء هنا.
أولاً، رغم أن بعض تدابير وسياسات التوسع المالي والنقدي لمناوئة الصدمات السلبية الأولى كانت معقولة ومناسبة بعد الثورة، فإن الوضع المالي في الدولة، لا سيما معدلات الإنفاق العام العالية، قد أصبح غير قابل للاستمرار. بين 2011 و2018 زاد الإنفاق العام كثيراً، من 24% إلى 30% من إجمالي الناتج المحلي، في حين زادت العوائد الضريبية بنسب أقل بكثير، من 23% إلى 25% على مدار الفترة نفسها (انظر جدول 1). نتيجة لهذا، زادت معدلات العجز في القطاع العام، لا سيما أثناء الفترة الأخيرة (2015-2018) ففاقت 5% من إجمالي الناتج المحلي في كل عام من الأعوام.3 ومع التمويل من الدين المحلي والأجنبي، أدى هذا إلى إبعاد الاستثمارات المحلية، وإلى انفجار الدين العام، الذي زاد من 40% من إجمالي الناتج المحلي في 2010 إلى 73% منه حالياً.4 وعلى التوازي، فإن الاختلال الكبير في ميزان المدفوعات، بتمويل من الدين الأجنبي، دفع بالدين الخارجي من نحو 40 إلى 85% من إجمالي الناتج المحلي بين 2010 و2019. إذا استمرت الديون في الارتفاع بهذه المعدلات، فلن يقتصر الأمر على أن يستمر سداد الفوائد في أن يحل محل النفقات العامة الأخرى، إنما قد يحدث أيضاً تراجعات أكبر في سعر العملة، وتضخم، ونتيجة لهذا قد يحدث تدني في مستويات المعيشة.5 وعاجلاً أو آجلاً، سوف يصبح الدين الخارجي غير مستدام، وسوف تفرض الأسواق المالية تعديلات مؤلمة وجبرية في الموازنات المالية والخارجية.
ثانياً، على الرغم من السياسات التوسعية، فإن معدلات النمو لم تتعاف على مر الزمن، واستمرت معدلات البطالة في التزايد. في حين يمكن تفسير هذا الأمر انطلاقاً من تزايد انعدام الأمان حتى 2016، فإن النمو الضئيل المتحقق بين 2017 و2019 يوحي بأن أسباب العلة أعمق بكثير. جزئياً، تدهور مناخ الاستثمار والأعمال مع تصاعد الفساد – حسب التصورات القائمة – والتوسع في الأنشطة غير الرسمية (وغير القانونية) مثل تهريب السلع.
ربما يكون هذا متصلاً بضعف قدرات الدولة على إنفاذ القوانين، لكنه ربما يرتبط أيضاً بتزايد معدلات محاباة المقربين (انظر المزيد أدناه). فكما هو الحال في جميع الاقتصادات التي تهيمن عليها محاباة المقربين، ترغب الشركات في أن تكون قريبة من الدولة بعيدة عنها قدر الإمكان.
في حالة تونس، منذ ثورة 2011، لم تزد المؤسسات الخاصة من استثماراتها، وانتقلت إلى قطاعات ريعية تحقق نمواً أقل، مثل قطاع الإنشاءات. تعد هذه التوجهات مقلقة للغاية إذ أنها تأتي في أعقاب نقاط ضعف هيكلية أقدم في الاقتصاد التونسي، الذي كان يركز دائماً بصورة أكبر على تهيئة فرص العمل لا المكاسب الإنتاجية والابتكار. وهناك نقاش دائر حول الأسباب الهيكلية لهذه العلة، المتصلة بمحاباة المقربين وضعف ديناميات التنافس والابتكار، وتركزّ المهارات في القطاع العام، وشروط اتفاقات التجارة غير الملائمة مع الاتحاد الأوروبي. لم يتحسن أي من هذه العوامل، وقد تدهور بعضها على مدار الأعوام الأخيرة.

ثالثاً، لم يصاحب تزايد النفقات العامة انتقال بالقدر الكافي نحو بنود الإنفاق الأعلى فائدة. لزيادة النمو، في نهاية المطاف، فلابد من انتقال النفقات من الاستهلاك إلى الاستثمار. بدلاً من هذا، ورغم زيادة النفقات العامة بواقع 6 نقاط مئوية بين 2010 و2018، فقد تراجعت الاستثمارات العامة خلال تلك الفترة (انظر الجدول 1)، وقد تضررت فعالية هذا الإنفاق بسبب الأزمات والاختناقات المرحلية في تنفيذ المشروعات.
في المقابل زادت فاتورة أجور الموظفين الحكوميين من 11 إلى 15% من إجمالي الناتج المحلي بين 2010 و2018، وهو مستوى أعلى بكثير من مثيله في الدول القابلة للمقارنة بتونس (على سبيل المثال، يزيد بواقع المثلين عن مثيله في تركيا، انظر الجدول 2). وفي حين يمكن للمرء تفهم أن الدولة تعرضت لضغوط لكي تخفف الصدمة على الاسر، فالطرق المستخدمة لم تؤد فقط إلى زيادة اللامساواة، إنما أدت أيضاً إلى مضاعفات وتعقيدات في الميزانية سوف يصعب فكّها في المستقبل. تزايد الإنفاق الاجتماعي أيضاً – لا سيما في السنوات الأخيرة – وتحقق هذا أيضا بأشكال صبت في صالح المستفيدين المباشرين داخل الدولة، مثل الموظفين الحكوميين، بدلاً من تقليل اللامساواة الجهوية البيّنة .
رابعاً، تعرضت القطاعات الرئيسية والاستراتيجية في الاقتصاد التونسي للإضعاف بصورة كبيرة من بعد الثورة. فقد تراجع إنتاج الفوسفات (-50% بين 2010 و2016) والنفط والغاز (-47% خلال الفترة نفسها) مع تراجع إنتاج الشركات الكبيرة المملوكة للدولة، كما في حالة قطاع الكيماويات (-30%)، في حين ارتفعت الأجور وتضاعفت ربحية الضرائب. وتكمن أسباب التدهور في الإدارة العامة للقطاع الحكومي والشركات المملوكة للدولة في ضعف مستوى الانضباط وتصاعد الممارسات الزبائنية وانتشارها. إن بعض هذه القطاعات ضرورية كل الضرورة لإنتاجية وتحسن أداء الاقتصاد بشكل عام. على سبيل المثال، فإن التدهور العام في اللوجستيات التجارية (كفاءة المرافئ والنقل الجوي) قد قلل من ربحية القطاع الخاص.
خاتمة واستشراف
على مدى قرابة سبعة عقود من التخطيط التنموي في تونس، تراوح الأداء بين مكاسب لا يمكن إنكارها في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية وتحسين المؤشرات الأساسية، وبين إخفاقات هيكلية عميقة في مجالات التشغيل والحدّ من الفقر والتفاوت الجهوي والفساد والارتهان للدوائر المالية الدولية.
وجاءت الثورة لتفتح بابًا واسعًا لتجديد المقاربات التنموية وتحويلها من “مجرّد تجميع مشاريع مشتتة” إلى رؤية وطنية تشاركية جامعة. إلّا أنّ السياقات السياسية المتقلّبة بعد الثورة، وغياب الرؤية، أدّت إلى إعادة إنتاج جزء كبير من المنظومة التنموية السابقة، وإن تغيّرت شعاراتها وشكلها. ثم جاءتعدم الإستقرار لتعيد التخطيط التنموي إلى مرحلة المركزة المفرطة المرتهنة للإرادة الفردية الآحادية العاجزة.
لقد أدى فشل “النموذج التنموي” لنظام الحزب الواحد في تونس إلى إندلاع ثورة عصفت بذلك النظام وغيّرت الجغرافيا السياسية في كامل المنطقة. وسيؤدي الفشل الذريع لأنظمة ما بعد تلك الثورة ونظام ما بعد الانقلاب في إرساء التنمية المنشودة وتحسين واقع المواطن إلى هزات لا أحد غير الله يعلم مداها وارتداداتها.
لذا، والنخب التونسية تناضل من أجل استعادة الديمقراطية، من واجبها العمل على صياغة رؤية تنموية جديدة بمنهجية مبتكرة، تضع الأسس لتنمية شاملة ومستدامة هدفها الأسمى رفاهية الإنسان. رؤية تواكب المرحلة المقبلة من ديمقراطية ناجزة ومستدامة، قادمة حتمًا، لأن ذلك يتماشى مع مسار التاريخ. وكما قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
الاقتصاد التضامني في تونس والمغرب: نحو نموذج تنموي مستدام
يشكل الاقتصاد التضامني والاجتماعي ركيزة أساسية للتنمية المستدامة في كل من تونس والمغرب، حيث يساهم في خلق فرص العمل، دعم الفئات الهشة، وتعزيز التنمية المحلية من خلال مشاريع تعاونية ومبادرات مجتمعية.
الاقتصاد التضامني في تونس
في تونس، يُعتبر الاقتصاد التضامني والاجتماعي محركًا رئيسيًا لدعم التشغيل والاندماج الاجتماعي، خاصة بعد تبني قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني عام 2020.
الركائز الأساسية:
- تطوير الشركات الأهلية والتعاونيات لتعزيز الاستقلالية المالية.
- دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال التمويلات التعاونية.
- تحفيز القطاعات الريفية والفلاحية لتشجيع الاقتصاد المحلي.
المؤسسات والبرامج الداعمة:
- البنك التونسي للتضامن الذي يمول المشاريع الصغيرة، حيث بلغت تمويلاته حوالي 12.3 مليون دينار لدعم 43 شركة أهلية.
- برنامج “رائدات” لدعم المرأة الريفية والمشاريع النسائية.
- تطوير آليات تمويل جديدة مثل الصناديق التشاركية لضمان استدامة المشاريع.
الاقتصاد التضامني في المغرب
يعد الاقتصاد التضامني والاجتماعي قطاعًا واعدًا في المغرب، حيث يشمل التعاونيات، الجمعيات، والمقاولات الاجتماعية التي تساهم في توفير فرص عمل، خصوصًا في المجال القروي والصناعات التقليدية.
أبرز محاور التنمية:
- تشجيع التعاونيات، حيث تجاوز عدد التعاونيات المسجلة 50,000 تعاونية تعمل في مختلف القطاعات.
- دعم المشاريع الفلاحية والصناعات التقليدية، بما في ذلك تسويق المنتجات محليًا ودوليًا.
- إطلاق برامج حكومية مثل “INDH” (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية) لدعم الفئات الهشة وتحفيز الاقتصاد المحلي.
المؤسسات الداعمة:
- مؤسسة محمد الخامس للتضامن التي تساهم في تمويل المشاريع الاجتماعية.
- وكالة التنمية الاجتماعية (ADS) التي تعمل على تعزيز المشاريع ذات الطابع التضامني.
- البنك المغربي للتجارة الخارجية (BMCE) الذي يدعم التمويل التشاركي للمقاولات الصغرى.
التحديات والفرص المستقبلية
على الرغم من النجاحات التي حققها الاقتصاد التضامني في كل من تونس والمغرب، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات تتعلق بـالتمويل، الإطار القانوني، والتسويق. لذلك، فإن تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتطوير الحلول الرقمية لتسهيل التمويل والوصول إلى الأسواق، سيشكلان رافعة أساسية لتنمية هذا القطاع في المستقبل.